حضرات النواب المحترمين.
بين مركز قيادة الجيش حيث الصمت رفيق الواجب، ومنبر هذه الندوة حيث الكلام هو السيد، مسافة لعلها أصعب ما كتب لي ان اجتازه منذ سلكت طريق الجندية.
غير ان ثقة الشعب الغالية التي شاءت، يوم عبرتم عنها، ان توليني مهام رئاسة الجمهورية، يمكنها دائما ان تسهل لي ما اردتم بهذه الرئاسة واردت من خدمة لبنان وشعبه.
ان اول ما يتجه اليه تفكيرنا، ونحن في هذا الموقف الذي يمتلىء فيه القلب بروعة المسؤولية أمام الله والوطن، هم اولئك اللبنانيون الذين سقطوا صرعى في الايام الدامية من حياة لبنان. فأمام أرواحهم نقف بخشوع لنعلن ان ما قدمه لبنان في أزمته الاخيرة من ضحايا، وما قاساه من مشقات ومتاعب، وما تكبده من خسائر، لا يجوز ان يذهب هباء، بل يجب ان يكون للبنان من ذلك كله أعظم الجنى. وفي عنق كل لبناني ان تنبت من البؤس والدماء والآلام اغراس العز والهناء والازدهار.
ان اقرار الامن وحكم الدولة في جميع المناطق اللبنانية، ونزع السلاح من ايدي اللبنانيين كافة دون تمييز وبلا هوادة، واعادة الحياة والنشاط الى الاقتصاد اللبناني، وبناء ما تخرب من مرافق البلاد ومعالمها، وازالة التوتر في العلاقات بين لبنان وبعض شقيقاته العربيات، ولا سيما تلك التي تجاوره، وفوق هذا كله تحقيق انسحاب القوات الاجنبية عن أرض الوطن بأسرع وقت، انما هي القضايا الملحة التي يتطلب حلها تصميم المسؤولين الكامل، وحزمهم الاوفى، وعنايتهم الدائبة.
على ان هنالك ناحية أخرى من نواحي الازمة هي ما تخلف عن حوادثها وايامها من تباعد وتنافر بين أعضاء الاسرة اللبنانية. وما أظن اللبنانيين جميعا الا متألمين لهذا الواقع المؤسف، وتواقين الى تصفية النفوس، وتنقية الصدور مما علق بها.
ان منطلقنا في ما نصبو اليه من تصفية آثار الازمة وحل المعضلات الناشئة عنها، وما نصبو اليه من بناء وطن حر متقدم، ومستقبل مستقر مجيد، انما هو التمسك بالوحدة الوطنية.
الى هذه الوحدة، الى احيائها والاعتصام بها، الى العيش المستمر في ظلها، ادعو اللبنانيين جميعا.
فليس من مطمع ولا من مطلب، شخصيا كان أم حزبيا، يجوز ان نعرض من أجله هذه الوحدة. وليس من حق لفرد او لجماعة يوازي جزءا يسيرا من هذه الوحدة. بل ليس من واجب ألزم على اللبنانيين من الحرص عليها، والسعي الى دعمها، ولا من جريمة في حق الوطن اشنع وأخطر من العمل على هدمها او التفريط بها.
حضرات النواب المحترمين.
في الساعة التي أقسم فيها يمين المحافظة على الدستور اللبناني، أعاهدكم وأطالبكم بعهدكم على الوفاء للدستور غير المكتوب: ميثاقنا الوطني. فهو الذي جمعنا ويجمعنا على الايمان بلبنان وطنا عزيزا مستقلا، سيدا حرا، متعاونا باخلاص وصدق مع شقيقاته الدول العربية الى اقصى حدود التعاون لما فيه خيره وخيرها جميعا، قيما علاقاته مع العالم أجمع على أساس الصداقة والكرامة والتعامل المتكافىء الحر.
واذا كان ميثاق جامعة الدول العربية التي نغتبط جميعا لاستئناف نشاطها، وميثاق هيئة الامم المتحدة، هما الدعامتان القويتان لاستقلال لبنان، فان الدعامة الكبرى تبقى في ميثاقنا الوطني: في وحدة صفوفنا، واجتماع قلوبنا، في اعتمادنا على أنفسنا واتكالنا على سواعدنا، في ولائنا الكامل غير المشوب ولا المجزأ لوطننا لبنان.
حضرات النواب المحترمين.
الضرورة الاساسية الملحة لبناء الدولة بناء سليما لم تنجل يوما كما تجلت في هذه الفترة الدامية الاخيرة. ولم يبق مناص من إقامة الدولة على أسس وقواعد ومقاييس مستمدة من تصميم النخبة، ومصلحة الشعب وطموح الوطن.
ولكي يثق المواطن بالدولة، يجب ان يسري فيها روح الجد ويسيرها: الجد في المسؤولية عن الواجب وفي الحساب، والجد في جعل الدولة للمواطن وللكل على السواء، والجد في النظرة الى الغد والتصميم له.
ولا بد من ان يطمئن المواطن الى تجرد الحاكم، وعدل القاضي، وامانة الموظف.
ولا بد من ان يكون للحكم فيها كل هيبته، وللقانون كل سلطته، ولحق الفرد والجماعة كل حرمته.
وعلى الدولة ان تتجاوز مهمة تأمين العدل والمساواة والنظام الى تعزيز الفضيلة، ورعاية التقدم، والعمل على ازدهار العلم، وتوفير أسباب النمو الاقتصادي، وكفالة الرزق للفرد ومستوى العيش الكريم.
واني، وانا أعد مواطني أمام مجلسكم باعطاء الجهد كله في سبيل بناء الدولة، أطالب كل مواطن ان يقطع على نفسه العهد بان يفي بمسؤوليته ويقوم بكامل واجبه.
فالنهوض بالدولة، النهوض الذي نهدف اليه اليوم، يحتاج الى معاونة المواطنين جميعا، والى حس الفرد بالانتماء الى المجموع، والى تفهم الحدود بين حق الذات وحق الآخرين، والتمييز بين الحرية والفوضى، والى التحلي بروح النظام والخضوع الاختياري للقانون.
ان لبنان، الذي كان دائما حاملا مشعل التقدم في هذه البقعة من المشرق، وصاحب المبادرة في كل نهضة عربية، لن يطمئن، اليوم، الى الدعة التي تسلبه القدرة على الاستمرار في رسالته التقدمية المشعة، بل سيعمل بروح جديد على ان يظل موطن التوثب والاقدام، ويحتفظ بدور الطليعة الذي هو دوره.
واني، وانا اتطلع الى وثبة لبنانية سباقة يدفعها هذا الروح الجديد، أتوجه، بنوع خاص، الى عنصر الشباب الذي أتحسس اشواقه الى التقدم والمجد، واعرف استعداده للعطاء والبذل بسخاء.
حضرات النواب المحترمين.
من هذا المنبر الذي تصدر عنه كلمة الشعب، اسمحوا لي ان أبعث مقرونة بالشكر لكم، تحية العرفان والولاء الى الشعب الذي اوليتموني الرئاسة باسمه، وتحية المحبة والوفاء الى المغتربين الذين اقاموا في ارجاء الدنيا مجد لبنان العالي، والذين نتتبع، نحن المقيمين، نشاطهم وانتشارهم بعطف وعناية واعجاب.
ومن هذا المنبر، اسمحوا لي ان أعبر عن طموح هذا الوطن، المنطوي على كنوز وفيرة من كوامن القوى الخلاقة، ومكانات الابداع، الى غد لا يكون فيه لبنان شغل العالم بسبب أزمة سياسية تهدد سلم منطقته او سلم العالم، بل الى غد مجيد يكون فيه لبنان محط انظار الدنيا، بفعل دور حضاري المعي شعاعه العلم العظيم، ونوره الروح الكبير.
ولا بد لي، أخيرا، من كلمة اوجهها الى جيشنا الحبيب. لقد رافقته ينشأ، ويترعرع، ويزهو، وعملت في سبيله ما استطعت. فمن حقه علي ان أخصه، الان، في هذه اللحظة الخطيرة، بعاطفة ملؤها الحنو. لقد رأيته متحليا بوطنيته وتفهمه للواجب. وكان له الفضل الاكبر في سلامة الكيان، والمحافظة على معاني الدولة، واستمرار الحياة على أساس الديمقراطية والحرية والمحبة.
فله مني الثناء والشكر. وليعلم انه ابدا موضع ثقتي ليقيني انه خليق بمجابهة كل المواقف بروح الاتحاد والانضباط.
أسأل الله تعالى ان يلهمنا السداد، وينير عقولنا بالحق ويفتح قلوبنا على التسامح والمحبة، ويهدينا لما فيه مرضاته وراحة الضمير وخير لبنان.
عاش لبنان.